الهجوم على العمالقة - تحفة الموت والدمار والحرية

في كلِّ مرّةٍ نحاول فيها استخلاص العبر من فيض قصّة العبقري هاجيمي ايساياما نجد مفهوم الحريّة متربّصاً ببقية المفاهيم ومتشبّثاً بقوّةٍ بصفةِ المفهوم الأساسي في القصّة والذي استخدم جميع العبر التي سبقته لإيضاح ذلك المفهوم الشاسع والواسع ولكن في كلِّ مرّةٍ ندرك أنَّنا كلَّما اقتربنا من تبيانه ابتعدنا عنه أكثر فأكثر
تدرّج مفهوم الحريّة في كلِّ مرحلةٍ من مراحل القصّة وتعدّدت أوجه ذاك المفهوم وارتبط بالعديد من المصطلحات الأخرى التي تعزّز بعضها تارةً...وتناقضُ بعضها تارةً أخرى لتصبح الحرية موضوعاً فلسفياً يختلف حسب وجهات التفكير ومناظير الحياة المختلفة
كلُّ السّبل تقودُ إلى ميعادٍ واحدٍ....الحريّة
بالنسبة لكَ آلافُ السنين لتبلغَ الحريّة الآن
وهل للحريّةٍ مولدٌ ، مرقدٌ ، حقيقةٌ وتبيان ؟!
لتتنافى خطوطُ الحقيقة عندها أخيراً ولا يدرك معناها إلى من تسامى لها
قد تكون الحريّة منطلقاً للأفعال النبيلة وتتجسّد كقيمةٍ أخلاقيةٍ سامية
وقد تكونُ مخرزاً فتّاكاً بين أيدي الشياطين يستغلّون تعقيدها وتقييدها لأفكار مناصريها
حاولت الكتابات والتقارير والبحوث التي تناولت الحرية أن تجدَ تعريفاً دقيقاً لها فمنها من تناولها بسطحيةً في محاولةٍ لإحاطة المفاهيم العميقة كلّها التي تحويها ومنها من تعمّق بتعريفها ليجدَ نفسه حائراً بين تفرّعاتها وما انطوى فيها
الحريّة هي حقُّ من حقوق الإنسان والخاصيّة التي تميّز الكائنَ الناطق عن غيره من الكائنات ؛ فلا قيمةً للإنسان دونها
هي قدرة الإنسان على التصرّف والتحرّك والقيام بأعمالٍ دونَ أدنى قيود
لها ثلاثة وجوه: وجهٌ إيجابيّ يُعبّر عن التصرُّف باستقلاليّة وعفويّة ، ووجهٌ سلبيّ يَرفُض المُمارَسات السلبيّة من البعض، مثل العبوديّة، وإكراه الأفراد على القيام بِأعمال لا يرغبون بها، ووجهٌ نسبيٌّ يَجمع بين الإيجابيّ والسلبيّ، وهو قائِمٌ على أساس أنّ الإنسان قادر على أنْ يَقوم بما يُريد، على ألّا يتعارض ذلك مع الآداب، والقوانين، والأنظمة العامّة
استطاعت تلك التعاريف وصف الحرية بشكلٍ عامٍ ولكنّها لم تعطِ تصريحاً حقيقياً عما تحويه من مفاهيم عميقة ضمنياً ولم تجب عن الأسئلة التي جعلت العديد من حروب العالم تشتعل من أجل ذاك المفهوم ولماذا كانت الحرية مذهباً للعديد من الشخصيات المهمة في التاريخ
الحرية آيديولوجيا اتّبعها العديد من قادة التاريخ والمؤثّرين فيه حيث توجد تقاطعاتٌ معينة بينهم ولكن كان هناك دائماً ما يميّز بعضهم عن الآخر فلماذا هذا الاختلاف ؟
يمكن ربط الحرية بأيِّ جزئيةٍ صغيرةٍ في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية والدينية والأدبية والفنية والقصصية...وشكّلت ثنائياتٍ مع مفاهيم التضحية والموت والحياة والبقاء...وتتعدّد مع تلك التشابكات تعاريف الحرية وقد تناقض بعضها البعض لنصل إلى نتيجةٍ أنَّ الحريّة منظورٌ نقارب منه الحياة ووسيلةٌ للتأقلم مع غاياتها وغايةٌ تتفانى كلُّ الوسائل لتحقيقها ؛ ليست دليلاً للخيرِ أو الشّر وليست منطقاً صحيحاً أو مرجعاً قبيحاً...هي أسلوبٌ وغاية وملقى النهاية في تحفةِ الموت والدّمار التي جسّدت كلَّ المعاني الإنسانية لندركَ أنّها مجرّد حروفٍ في سطورِ الحريّة تقصّها الحكاية التي قاربت عشرَ سنينٍ من عمرها نعيشُ بين فصولها الأخيرة أحلى العبر وأغلاها...
بالنسبة لك 2000 سنة من الآن كنت في كلِّ العصور رفيقاً لها..عزيزاً عليها وحاملاً لاسمها..تبحثُ عنها وتواريها... تتقلّب على أجنحةِ الحريّة...غنيت لأجلهم وهتفت بأناشيدهم...حلّقت فوق السّور فلم تسع عيناكَ المحيط وتراءت إلى ما خلفَ الأفقِ البعيد...ما الجدار كان يستبيحُ أمانينا وما الحرُّ سوى بمسحِ عارِ ما فينا...مررتَ بجانبِ نسرٍ في الجانب الآخر من المحيط حيثُ الحصن العنيد...رددتَ الجريح بألفِ مقتول وبنيتَ الضريحَ وراءَ الستارِ المسدول...والحرية لا زالت في ملقىً مجهول...أينَ أنتَ الآن وبأيِّ الأزمان تلاقيها...لن تلقاها سوى بالموتِ يفيضُ بعينيكَ نجوماً والليلُ يناسيكَ هموماً...أنتَ حرٌّ الآن فكفى بكَ تجاريها
أينَ أنتَ الآن
في حلمٍ آخر
لا زال الوحشُ في داخلي يتماشى
وأنا في ظلِّ الحريّةِ وراء الزّمن....أتلاشى
في الجزء الأوّل من هجوم العمالقة تجسّد مفهوم الحريّة بثنائيّةً من الدستوبيا المحاطة بثلاثةِ جدران ويوتوبيا مرميّةٌ في مكانٍ ما خلفَ أقليم العمالقة
مفهومٌ معقّدٌ ببساطته ودقيقٌ بمقارباته حيث ارتبطَ سياسياً واجتماعياً بمنظور إحدى فئاتِ شعب الجدران ( وليس كلّها ) التي تطلّعت لاجتياز الجدران فكانَ دافعاً وجودياً لاستمراريتها وأعطاها ميّزةً تفرّد عن بقيّة فئات الشعب التي ربما شكّل موضوع الحرية لها معنىً آخر تماماً
الثنائية الفلسفية للعالم متوحشٍ قذرٍ مغلّفٍ بجدرانٍ معنوية ومادية ؛ وما وراءَ المجهولِ المغسولِ ببعضٍ من مشاعرِ الانتقام والفضول والثأر للبشرية
كلٌّ من كان يعيش الإسقاط الأول من تلك الثنائية في عالمٍ دستوبي مستوحى من بنود الفلسفة النازية ؛ أما الإسقاط للنقطة الثانية رسمه كلُّ منهم بطريقته ؛ على أملٍ أنَّ الأسوار المادية هي من تفصلهم عن اليوتوبيا الضائعة
مفهوم الحرية مرصّعٌ بمعاني الجمال والكمال ؛ والسبيل الوحيدُ لتكون سداً منيعاً يحميكَ من فيضِ القساة وفوحِ القذارة تلك هو الكفاحُ والقتال
عمدَ إيساياما على الربط ما بين المعاني الإنسانية السامية ومفهوم الحريةِ والكفاح الذي حُملَ على أجنحة الحرية باسم فيلق الاستطلاع
فنتجَ خليطٌ من المفاهيم تفرّد بها هجوم العمالقة في جزئه الأول وتعلق بها الفانز فغنوا للمجدِ ورددوا أناشيد اللينكيد هورايزون أينما سمعوها
وكانت الحريّة طرحاً سامياً جعلَ جمن جميع الأساليب في سبيله أفعالاً بطوليّةً ونهجاً نبيلاً
بدأ مفهوم الحريّة يخضع لبعض التعديلات حين تقاطع مع آيديولوجيا الملك 145 الذي فضّل سحب جزءٍ من شعبه خلف الجدران على أن تعيش تلك الفئة تحت حكم امبراطورية مارلي ؛ولكنّه مارسَ نوعاً من التطهير الفكري بمسحه لذاكرتهم فأصبحوا جميعاً عبيداً لحياةٍ مسيّرةً لا تاريخ لها
كانت آيديولوجية الملك كارل تنص على كبح كلِّ محاولاتِ التحرّر الفكري التي تسعى لكشف أسرار الجدران والمحافظة على التوازن في داخلها سعياً للسلام الأبدي
وهنا تكمن إحدى المفارقات والتناقضات الواقعية
آيديولوجية الملك كارل قامت على اللاهوت السياسي النازي الذي ينصُّ بأحد بنوده على محاربة الليبرالية
الليبرالية هي مذهبٌ سياسيٌّ ينصٌّ على تحقيق أعلى الدرجات من الحرية الفردية وحقِّ الاختيار
ولكن بنفس الوقت كان النازيون يتغنّون بحريّة الأمّة الألمانية ويتخذون الكفاح السياسي مذهباً لتحقيقها
قال هتلر : إنَّ الجمرة اتّقدت وسيخرج من لهيبها السيف الذي سيعيد الحرية إلى الأمة الألمانية
نظر النازيون للحرية على أنّها سمو عرقهم فوق كل الأعراق ومحو العار الذي لحق بأمّتهم في الحرب العالمية الأولى بشتّى السبل من قمعٍ لحريات الاجتماعية والفكرية والسياسية الأخرى فكانت مفهوماً سياسياً عنصرياً بحتاً ارتبط بمعاني التضحية والنضال والكفاح من أجل الأمّة
ومع تكريس أرك الثورة لإلقاء النظر على الحياة الاجتماعية ضمن الجدران استمرَّ مفهوم الحرية بالتقلّب بشكلٍ يشابه ما حدث في البؤرة النازية هذا المرة داخل المستنقع البشري ضمن الجدران
الكلُّ عبيدٌ مقتاد
فالقويُّ يقتاد الضعيف
والفقير خائرٌ لفتاتِ رغيف
الفاسدُ نبيلٌ والماكرُ شريف
الحجرُ الحقيقيُّ كان بعقولهم بتاريخهم وبهوّيتهم وليس بالجدران التي أحاطت ١٠٠ عامٍ بهم والحريّة تكمن بتطهير ذاك الفكر القذر للمجتمع البشري الذي قاده الحبس ١٠٠ عامٍ نحو أفعالٍ غريزية ومصالحَ طمّاعة وتصرّفاتٍ لا أخلاقية
ومن هنا انطلقت الثورة...لامتلاك الحريّة الداخلية أولاً...الحريّة الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تصبُّ في مصلحة فئات شعب الجدران كلّها قبل أن يسيّر فيلق الاستطلاع حملةً كبرى لاستعادة أكبر إقليمٍ للبشرية وتحرير جدار ماريا
بيّنت قصّة هجوم العمالقة كذلك أوجهاً فريدةً للحرية على رأسها الموت...فأعطى الموت العديد من الشخصيات حريّتها على رأسها القائد إيروين سميث الذي وُصف بالشيطان حيثُ كانَ سجيناً لأحلامه ونال حريّته باعتناقه الموتَ تكريماً لنهايته
لينقلبَ مفهوم الحرية رأساً على عقب مع اكتشاف الحقيقة ضمن القبو في ذكريات الطبيب ييغر وتنقسم الأطاريح وتتعدّد وجهات النظر
الكلُّ عبيدٌ لشيءٍ ما
وما قامت به يومير فريتز جعل من شعب إلديا درساً عملياً في العبودية والحريّة ؛ وما كانت الجدران سوى جزءاً بسيطاً من 2000 عامٍ من المآسي
على شعب إلديا أن يناضل في نيل الحريّة على عدّة جبهات
الحريّة من عار التسميات والألقاب
الحرية من أفعال التاريخ
الحرية من الانجرار خلف الاقتتال والحروب الأهلية
الحرية من غطرسة امبراطورية مارلي
الحريّة من الجدران والتخلّف عن بقية أصقاع العالم
الحرية من عقد الملك 145 للسلام
الحريّة من تكرار الأخطاء والارتباط بعالم المسارات...إلخ
انتبه من الحرق
.
.
.
وهذا ما جعل القصّة بعد الفصل 90 تدخلُ منحاً شديد التعقيد للتضارب الذي يحدث بين فئات شعب إلديا واتخاذها منظوراً خاصّاً بها للحرية فاختلفت الأساليب معها كذلك
كان إيرين ييغر أكثر الشخصيات ارتباطاً بمفهوم الحرية لشدة تكراره لتلك العبارة وخضعت شخصيته للتغيرات تبعاً للتعديلات التي طرأت على مفهوم الحرية عبر القصة
ولذلك وصفه ايساياما بأنّه أصبحَ عبداً للقصّة فقد اتخذ إيرين من نهج الكفاح لنيل الحريّة ايديولوجيا له منذ صغره وكانت شخصيته مجرّد انعكاسٍ مرئيٍّ للحريّة وكأنّها تتجسّد ماديّاً فيه ؛ فكان ساذجاً عفوياً في البداية كالحريّة الهشّة التي عايشناها في بداية القصة والرغبة في الخروج من سجن الجدران لتنضجَ شخصيته مع احتكاكه بالآخرين وبشعب الجدران وتاريخه مع نضج مفهوم الحرية شيئاً فشيئاً لنصل أخيراً إلى شخصيةً باردةٍ شديدة الغموض كتومةٍ ومعقّدةٍ قد يحاول السينسي هاجيمي ايساياما من خلالها إبراز الجانب السواديَّ من الحرية بأنّها ليست طرحاً نبيلاً دائماً أو قد تكون طرحاً نبيلاً ولكن بأساليبَ مريرةً
ومع الانقلاب الكبير الذي حدث في القصّة خضعت شخصية إيرين لانقلابٍ أساسيٍّ كبير جعل من شخصيته أكثر الأمور المحيّرة في القصة كما هو مفهوم الحرية الذي يعمل على تجسيده
العملاق المهاجم الذي سميَّ بعملاق الحريّة كان ولا زال إحدى الأمور الغامضة والتي ترتبط بجوهر القصة ببدايتها وبنهايتها
طُرحت العديد من النظريات حيال عملاق الحرية ورغبته عبر العصور بنيلها بأنّه كان دائماً خارجاً عن رغبة العملاق المؤسّس والملكيين
ومع وصول رمز الحرية في القصة إيرين ييغر إلى عالم المسارات استمرَّ السينسي ايساياما بتقديم الحرية كموضوعه الأساسيِّ وعنوان القصّة الحقيقي
فتبيّن أنَّ يومير فريتز التي كان اسمها يثير الهيبة أينما ذُكر حبيسةٌ بجسدٍ لا إرادة له وتخضع لرغبات الملكيين المؤسّسين تعيشُ في عالم المسارات تصنّع أجساد العمالقة من الرمال وتنتظر الأحداث أن تتقاطع وتتكرّر لعلّها بإحدى اللحظات تجتازُ جداراً آخر من لعنةٍ ألفيّة وتحيا بجسدٍ يرافقُ الحريّة...منهم من نال حريّته بالممات...ومنهم من سيلقى حريّته بالحياة
بالنسبة لك 2000 عام....أنتَ حرٌّ الآن
تحفةُ الموتِ والدمار ...والحريّة🔥💙

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة